
في صباح يوم 12 ديسمبر 1984 تبدلت أقدار موريتانيا في لحظة مفصلية من تاريخها الحديث حينما قاد العقيد معاوية ولد سيدي أحمد الطايع انقلابا عسكريا أطاح بالرئيس محمد خونه ولد هيدالة أثناء غيابه عن البلاد في ما سمي لاحقا بالانقلاب على الصيد(كلمة حسانية تعني الرجل) حيث ظل الموريتانيون يطلقون على ولد هيدالة طيلة فترة حكمه لقب "الصيد".
كانت البلاد في تلك الفترة تمضي نحو نهاية يوم عادي حين تجمعت في نواكشوط سلسلة من الأحداث التي ستقلب النظام رأسا على عقب. في ذلك الصباح أغلق على نحو غير متوقع باب السلطة الذي كان يتولاه الرئيس محمد خونه بينما كان هو نفسه غائبا لحضور القمة الفرنكوفونية في العاصمة البوروندية بوجمبورا.
ظلال التوتر قبل الانقلاب
مع ساعات الصباح الأولى كانت الإذاعة الوطنية قد قطعت برامجها في حدود الساعة الثانية ظهرا لتذيع بيانا عاجلا عن اجتماع طارئا لماسمته اللجنة العسكرية للخلاص الوطني.
في غياب ولد هيدالة اتخذت اللجنة قرارا مفاجئا هو إعلان بدأ حركة التصحيح بقيادة العقيد معاوية ولد سيدي أحمد الطايع قائد أركان الجيش الذي حل مكان الغائب كرئيس للجنة ورئيس للدولة.
لحظات التحول الأولى
الساعة التي أُذيع فيها البيان كانت بداية تحول سريع في مواقع القوة داخل العاصمة نواكشوط.
بينما كان الضباط ينفذون خطة السيطرة على المواقع الأساسية من إذاعة وتلفزيون ومقار حكومية كان بعض المواطنين يلتفتون بوجوم نحو مراكز الأخبار متسائلين بقلق وفضول.
لم تسمع رشقات نارية تزلزل الشوارع ولم تتدافع الحشود أمام القصر الرئاسي؛ لقد كان المشهد أقرب إلى ذاك النوع من التحولات التي تظهر خارجة من حديث دار خلف الأبواب المغلقة قبل أن يطل فجأة على الشارع.
تسلّم السلطة
في صمت نسبي تنظيمي سلم معاوية نفسه مقاليد الحكم كممثل للجنة العسكرية وأعلن في بيان رسمي عن إعادة هيكلة اللجنة ذاتها؛ حيث حُلت قيادة هيدالة وأُعيدت تسميتها برئاسة الطايع.
وشوهدت تعزيزات عسكرية بالقرب من المواقع الإعلامية والمباني العامة لكن الأعمال اليومية في الأسواق والشوارع واصلت سيرها كأن شيئا لم يكن.
ورغم بساطة الأمر الظاهر فإن الخطوة كانت جزءا من خطة محكمة داخل الجيش.
فمعاوية ولد الطايع الذي كان من أوائل الضباط في الجيش الموريتاني وممن شاركوا سابقا في انقلاب 1978 الذي أطاح بأول رئيس للبلاد استطاع استثمار غياب الرئيس لتعزيز موقفه والسيطرة على مفاصل القوة.
ردود الفعل الأولى
أعلنت الإذاعات والمحطات الرسمية أن ما حدث هو «حركة تصحيح» وهي صيغة صاغتها القيادة الجديدة لتبرير انتقال السلطة مشيرة إلى أزمة اقتصادية خانقة ووجود سجناء سياسيين وتذمر شعبي متصاعد.
في الأسواق كان الناس يتبادلون الأحاديث:
وكانت الصحف الوطنية حين صدرت في الأيام التالية تتباين في تفسير الحدث.
بعضها نسب هذا التحول إلى ضرورة إصلاح جذري وبعضها شاهده مجرد تقييد لحياة سياسية كانت أحوج إلى انفراج.
عودة هيدالة والاحتواء
بعد يوم أو يومين من الانقلاب، عاد الرئيس السابق ولد هيدالة إلى نواكشوط ثم وُضع تحت الإقامة الجبرية ليسُجن لاحقا لأربع سنوات امتدت حتى 1988.
كان مصير ولد هيدالة انعكاسا صارخا على ما آلت إليه الأمور.
رئيس رحل عن منصبه في غيابه وعاد ليلقى أسيرا في بلده.
معاوية....نحو تثبيت الحكم
بعد الاستلام الفوري للسلطة بدأ معاوية تنظيم ما سماه إعادة الهيكلة السياسية؛ فعزز نفوذ الجيش في مفاصل الدولة وأطلق خطابا جديدا عن استقرار وضرورة إصلاح الدولة.
وفي العام 1991 أعلن دستور تعددي وصار نظام الحزب الواحد السابق يتوسع ليشمل تعددية شكلية.
وفي انتخابات ديسمبر 1992 المُعلن عنها في ظل النظام الجديد فاز معاوية بالرئاسة وإن شككت المعارضة في نزاهتها واستغراق الأجهزة الرسمية في دعم مرشحه.
أعيد انتخاب الرجل لاحقا في 1997 و في 2003 وهو ما عزز قبضته على السلطة وعمق نموذج حكمه قرب الحكم الواحد رغم بذل بعض الشعارات التعددية.
انعكاسات الانقلاب
امتد حكم معاوية حتى أغسطس 2005؛ أي نحو 21 عاما منذ انقلاب 12 ديسمبر 1984 الذي تطل علينا ذكراه اليوم.
طوال تلك السنوات واجهت السلطة تحديات داخلية وخارجية، بينها محاولات انقلابية فاشلة في 2003 و2004 وتمسك النظام بالسلطة عبر أجهزة الأمن والسياسة.
وكانت السيناريوهات التي أعقبت 12 ديسمبر انعكاسا لعلاقة الجيش بالمجتمع ففي موريتانيا كما في بلدان أخرى استطاع العسكري أن يتحول من ضابط داخل المؤسسة إلى صانع قرار يفوق المدنيين في البنية السياسية.
وقد ميزت تلك المرحلة فصولا من السيطرة الأمنية على الحريات الأساسية بحسب تحليلات لاحقة للصحافة والمراقبين.
الصحافة والذاكرة
بعد أربعين عاما على الحدث تتناوله الصحافة والمنتديات التحليلية بأسئلة جوهرية.
هل كان انقلاب 12 ديسمبر استجابة لحاجة وطنية أم بداية لعقد من السيطرة العسكرية؟
هل حقق ما وَصَفَه مؤيدوه بأنه تصحيح للمسار؟
أم أنه قيد الحياة السياسية وشكّل مرحلة من تأبيد السلطة؟
لا تزال هذه الأسئلة يعاد طرحها في كل ذكرى.
ليبقى الحدث علامة مفصلية في التاريخ الموريتاني الحديث.
حدثٌ غير نظام الحكم في لحظة، لكن تأثيره امتد على العقدين التاليين من الحياة السياسية.
لقد كان انقلابا أبيضا من حيث السلمية الظاهرة، لكنه ترك أثرا عميقا في بنية السلطة والعلاقة بين الجيش والمجتمع.
وفي العودة إلى تفاصيل ذلك اليوم كما في الأيام التي تلته تقف الصحافة والتاريخ أمام مشهد يعكس ثنائية السلطة والهوية السياسية في بلد لم تتوقف ذاكرته عن سؤال الماضي ومستقبل الحكم المدني.




